في صيف كان يفترض أن تنعم البلاد بالهدوء الساحلي، جاء تموز محملاً باللهيب، فقد التهمت النيران غابات اللاذقية وطرطوس، لتحرق أحلاماً وذكريات، وما فاقم المشهد ألماً أن التدخل الإنساني، بمستوياته الإقليمية والدولية، بقي خلف ستار البروتوكولات، يراقب بصمت لا يشبه التضامن.
وعلى حسب القانون الدولي الإنساني، ووفقاً لاتفاقيات جنيف وبروتوكولاتها، يعد تقديم المساعدات الإنسانية في حالات الكوارث البيئية التزاماً قانونياً وأخلاقياً على الدول والمنظمات.
ومع ذلك، حين احترق الساحل السوري، لم تحترق الطبيعة وحدها، بل احترقت معها: الحياة، الكرامة، والمأوى. وبرغم أن الكارثة لم تكن وليدة نزاع مسلح، إلا أنها تندرج ضمن إطار الحالات التي تحتاج تدخلاً إنسانياً وفقاً لمبدأ “مسؤولية الحماية” المعتمد دولياً. رغم أن القانون الدولي الإنساني يتسع ليشمل الحالات التي تهدد حياة المدنيين بشكل منهجي ومستمر. علما أن "مسؤولية الحماية" التي أقرت عام 2005 لم تكن مخصصة لصراعات سياسية فقط، بل هي جهة قانونية للتحرك حين تغيب قدرة الدولة، وتُصبح الحياة مهددة من دون طرف مباشر.
وبحسب التصريحات الرسمية، طائرات إطفاء أوروبية أتت من قبرص إلى الساحل السوري بعد أن طلبت الحكومة رسمياً الدعم من الاتحاد الأوروبي. إلا أن هذا التحرك جاء بعد مرور ستة أيام على اندلاع الحرائق، التي أتت على أكثر من 100 كيلومتر مربع من الغابات، وهددت حياة آلاف السكان في أكثر من 60 تجمعاً سكانياً.
لذلك هذا التأخر الأوروبي أثار تساؤلات حول جدوى آليات الاستجابة التي يفترض أن تكون "سريعة" على حسب مبدأ الحماية الإنسانية.
وفي حين سارعت دول الجوار مثل: تركيا، والأردن، ولبنان لتقديم المساعدات الجوية منذ الأيام الأولى. هذا التفاوت الزمني في الاستجابة يعكس الأداء في تطبيق مبدأ "مسؤولية الحماية"، ويعيد طرح السؤال: هل تستخدم بروتوكولات القانون الدولي كذريعة لتأخير التدخل بدل أن تكون محفزاً له؟
لذلك غاب مبدأ "عدم التمييز" عن ساحة المساعدات، وحضرت التكتيكات السياسية التي تطوع التدخل الإنساني لاعتبارات الجغرافيا والتحالفات.
بحسب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA)، فإن الحرائق في الساحل السوري أثرت على أكثر من 5,000 شخص في 60 تجمعاً سكانياً، وأدت إلى تدمير 100 كيلومتر مربع من الغابات، أي ما يعادل 3% من الغطاء الحرجي في سورية.
رغم وجود فرق تقييم ميدانية تابعة للأمم المتحدة، إلا أن الاستجابة الفعلية ظلت محدودة، مما يطرح تساؤلات حول فعالية خطط الطوارئ الدولية في التعامل مع الكوارث البيئية في مناطق النزاع.
كما أن العقوبات الدولية، وغياب الثقة بين الجهات الفاعلة، تعيق وصول الدعم في الوقت المناسب، وتضعف قدرة المنظمات على التحرك السريع، رغم أن القانون الدولي الإنساني يلزمها بذلك.
في الكوارث، نحتاج إلى منظومة إقليمية إنسانية تقارب الكوارث البيئية كأولوية أمن قومي وإنساني مشتركة. وتكون عبر:
* إنشاء كيانات تمويل مخصصة لحالات الكوارث البيئية العابرة للحدود.
* بناء شراكات مرنة بين الفاعلين المحليين والإقليميين دون انتظار إذن دولي مسبق.
* تطوير آليات تدخل سريعة قائمة على مبدأ "الاستجابة ثم، التنسيق".
فقد آن الأوان أن يتحول الصمت العالمي إلى صوت، والمراقبة إلى مبادرة. لأن ليس من العدل أن تصبح الكوارث ملف بانتظار رقم قرار دولي.
بدلاً من أن يكون في ضمير المنظمات الإنسانية، والمجالس الإقليمية، والمؤسسات الأكاديمية، وحتى الإعلام المستقل. فالمساعدات لا تقاس بحجمها فقط، بل بسرعة وصولها.
ليكن هذا النداء شرارة جديدة لا تشبه النيران، بل تضيء درب الاستجابة العادلة، وتعلن بصوت واضح: حين تحترق غابة، يجب أن يتحرك العالم، لا أن يصمت خلف البروتوكولات.
كارثة الساحل السوري شكلت درساً، في كيف يتعامل العالم مع من يحترقون. لأن القانون الدولي الإنساني ليس ورقة ترفع في المؤتمرات، بل موقف أخلاقي يجب أن يكون ليترجم إلى فعل لا يخضع لحسابات ضيقة.
لذلك ندعو المجتمع الدولي، والمنظمات الإنسانية، والمؤسسات الأكاديمية، والإعلام المستقل، وكل من يؤمن بأن الكارثة لا يجب أن تكون مجرد بند في أرشيف القرار الدولي، إلى تقديم الدعم النفسي والاجتماعي والمادي للفئات المتضررة من كارثة الساحل السوري. ولأن الغابة حين تحترق، لا ينبغي للعالم أن يلتزم الصمت
ومن هذا المنطلق تطلق مؤسسة الماسة للإغاثة والتنمية نداء إنسانياً عاجلاً إلى جميع المنظمات الإنسانية والهيئات الدولية والإقليمية للتضامن الفعلي مع أهالي الساحل السوري وتقديم الدعم العاجل للمتضررين من الحرائق، نطالب بتسريع إيصال الإغاثة الطارئة وتوفير المأوى للنازحين وإعادة تأهيل المناطق المحترقة ونهيب بكل شركائنا في العمل الإنساني أن يُترجم تضامنهم إلى فعل ملموس.
لقد بدأت فرق مؤسسة الماسة بالاستجابة الفورية عبر تقييم الاحتياجات والمساهمة الميدانية في تقديم المساعدة للمتضررين إلا أن حجم الكارثة يتطلب تكاتفاً واسع النطاق
ليكن هذا النداء شرارة جديدة لا تُشبه النيران بل تضيء درب الاستجابة العادلة وتُعلن بصوت واضح حين تحترق غابة يجب أن يتحرك العالم لا أن يصمت خلف البروتوكولات
كارثة الساحل السوري شكلت درساً في كيف يتعامل العالم مع من يحترقون لأن القانون الدولي الإنساني ليس ورقة ترفع في المؤتمرات بل موقف أخلاقي يجب أن يُترجم إلى فعل لا يخضع لحسابات ضيقة.
دانيا عبد الغني النابلسي
باحثة في العلوم السياسية "العلاقات الاقتصادية الدولية"، وفي العمل الإنساني والتنموي.